" الرقص تحت المطر "....... شيرين مريش
حريات
ثقافية ـ ما كان يخطر ببالي يوماً أنه سيكون عليّ أن أجتاز اختباراً بهذه
الصعوبة.. اختبارٌ بصخب سيمفونية موزارت رقم (40) !! هو صاخب معظم الوقت
متتابع الدفقات.. نغماته العالية تتخللها نغمات ناعمة تهدئ من صدمة الصخب،
فتعطيك مساحة صغيرة لتلتقط أنفاسك!!
مارست العزف مراراً في أروقة حياتي،
وعلى وقع سلسلة من التجارب المتفرقة كونت تقاسيم من أردت أن أكون. بيد أنه
اتضح لي أنه كان ينقصني الكثير قبل أن أستطيع القول :ها أنا ما أردت أن
أكون!!
كان
العزف الأصعب في حياتي حتى الآن، و الأجمل في نفس الوقت !!.. فكنت كمن عليه
أن يعزف الكمنجة ثم الفلوت و البيانو.. و أحياناً كان عليّ أن أعزفها
مجتمعة و في آن واحد. و يا لها من معزوفة طويلة!! كلما ظننت أني اقتربت من
الانتهاء منها، حتى فوجئت بتحدٍ جديد..
عشت الحيرة كثيراً، في
كل مرحلة . فقبل أن أتخذ القرار النهائي كانت تعصف بي الأفكار، تشتتني و
تجمعني، أطرح السلبيات و أضيف الايجابيات، ومع ذلك كثيراً ما كنت أنتهي
للجواب الغير صحيح .. فأبدأ الحساب من جديد. كم كنت دوماً بارعة في
الرياضيات، غير أن الحياة تتطلب أن تدمج الحسابات المنطقية بالعواطف دون أن
تنسى أن تضعها تحت جذر انسانيتك، لتكوّن معادلة صحيحة و بناتج لا يقبل
سالباً على يمينه !!
كان الاختبار إذن ، و كان مسؤوليتي ، فالعزف عزفي ، و كل يعزف على ليلاه !!
إن طريقة تعاملك مع أي موقف أو تجربة تمر بها في حياتك هي تعبير عن أسلوب
تفكيرك بالحياة، و الذي هو محصلة شخصيتك التي كونتها بتأثير المورثات
الجينية مع ما اكتسبته من خبرات على مدار السنوات، سواء من تجارب سابقة أو
علم و ثقافة نلتها. و هنا يظهر الاختلاف بين أن تكون غصنا قاسياً تتكسر
أمام الريح العاتية، أو أن تكون غصناً ليناً يميل مع النسيم فلا
ينكسر.."فالحياة ليست في انتظارك مرور العاصفة، بل هي في قدرتك على الرقص
تحت المطر"...
غير أني كنت أنتظر مرور العاصفة !!..هذه العاصفة
التي بدأت و أنا خائرة القوى، كبيتٍ نوافذه مكسورة من أثر عواصف سبقت.
كثيراً ما غرقت في ليالي الحزن و شعوري بالفشل، و كم أصبحت عرضة للانتكاسات
!!
إلا أني لم أكن يوماً ممن يعرفون الاختباء، فالمواجهة هي ما
أفعل عندما أجد نفسي أمام تحدي..فبين أن أستمر في الانتظار أو أن أرقص تحت
المطر..اخترت أن أرقص !!
يعجبني قول المتنبي :" على قدر
أهل العزم تأتي العزائم و تأتي على قدر الكرام المكارم".. إذ يبدو أنني
عندما قررت أن أواجه، أن أرقص، شرفتني العزائم !! كان ذلك عندما صرخ في
وجهي أحد الأوتار المهترئة منقطعاً بينما كنت أظن أن لحن المعزوفة كان قد
بدأ يتسق!!
انقطع الوتر، وكان القشة التي قصمت ظهر البعير..فقد حان وقت التغيير..
آمنت
دوما بالتغيير، وهذه فرشاتي؛ دوما بيدي..أغير فيها الألوان ،و أنا من عشاق
الألوان. لن تجد في خزانتي سوى قطعتين باللون الأبيض و الأسود و الباقي
ألوان أخرى. لقد أحببت دوماً معزوفة فيفالدي الشهيرة "الفصول الأربعة"..
ربما لأنها تشبهني كثيراً..تشعرني بالتجدد و تملؤني بالحياة..
إن
القدرة على التغيير تتطلب الجرأة ، إلا أنه عندما يكون التغيير ضرورياً
فإنها تتطلب الشجاعة، و هناك فرق بين الاثنين. البعض منا يقضي عمره خائفاً
من التغيير، قد يقبل به إذا فُرض عليه، لكنه لن يأخذ زمام المبادرة. و
لهؤلاء أقول : كونوا جريئين، أقدموا في الحياة فهي تنتظركم، لا تكونوا مجرد
كتل تحركها الأحداث.. أثروا و تأثروا، غيروا بحكمة..لا تبقوا في أماكنكم ،
فيكفيكم - و ان لم تنجحوا- شرف التجربة...
كنت قد قرأت
لأحلام مستغانمي في روايتها الشهيرة ، روايتي المفضلة "ذاكرة الجسد" قولها
على لسان أحد أبطال الرواية :" لم أبدأ من الصفر.. نحن لا نبدأ من الصفر
أبداً عندما نسلك طريقاً جديداً. إننا نبدأ من أنفسنا فقط. أنا بدأت من
قناعاتي. "... لقد بدأت من قناعاتي.. قناعتي بأني بحاجة أن أسلك طريقا
جديداً، بحاجة التغيير. فبعض الأوتار البالية إن لم تستبدلها بجديدة نشزت
عليك اللحن، و أصبح العزف منفراً..
فها أنا أسلك طريقا جديداً ،
مشيت فيه قرابة عام كامل، هرولت أحيانا و أحيانا أخرى ركضت. لكني أصبحت
أكثر رشاقة الآن،فقد بدّلت حمولتي. في جعبتي الآن الكثير من الصبر، والهدوء
و الحكمة و التفاؤل، والكثير من الامتنان، و هو الأهم...فالرضا عن النفس و
القناعة بما لديك هو ما يمنحك السلام..
أعلم أن
الاختبارات لن تنتهي، ولن يتوقف التغيير اختيارياً أو قسرياً مازلنا أحياء
..لكن هذا الاختبار كان عظيماً، فقد جعلني أكتشف الكثير من طاقاتي. علمني
أن السعادة هي أسلوب تفكير و منهج حياة. أن السلام الروحي لا يأتي بدون
الصمود، و ما بعد الصخب إلا السلام...
مازال أمامي الكثير لأتعلم..لكني بالفعل تعلمت كيف يكون الرقص تحت المطر..
التاريخ : 7/10/2011 3:39:40 PM